هل من الممكن أن تفسر الفيزياء الوعي البشري ؟
هل من الممكن أن تفسر الفيزياء الوعي البشري ؟
نظرية الإختزال الموضوعي ORCH-OR THEOREM
[ غزال الطريق السريع ]
الدماغ كتلة من اللحم — دافئة، رطبة، كهربائية.
لكن ماذا لو كان بين ثناياه كاتدرائيات من الضوء؟ ماذا لو كانت الأفكار لا تولد، بل تنهار؟
تنهار من احتمالات لا متناهية نحو لحظة واحدة– نحوك أنت ؟
كيف ننتقل من دماغ مادي، مليء بالخلايا، إلى إحساس ذاتي؟ إلى فكرة، شعور، تأمل، حب، و وعي؟
...
الخط السريع طويل ويبدو وكأنه يمتد إلى ما لا نهاية. لم يتغير لون السماء من وردي الغروب الشاحب لساعات، يكاد بإمكانك أن تُقسم أنك قد كنت تقود السيارة لمدة عشرين دقيقة أو ما يقارب ذلك.
...
نظرية Orch OR (اختصار لـ Orchestrated Objective Reduction، أي "الاختزال الموضوعي المنظَّم") تُعتبر محاولة طموحة لفهم الوعي من منظور فيزيائي، طرحها الفيزيائي روجر بنروز (Roger Penrose) والطبيب المختص بالتخدير ستيوارت هامروف (Stewart Hameroff) خلال أواخر القرن الماضي. تشير هذه النظرية إلى أن الوعي لا ينبع فقط من كهرباء الدماغ، بل من عمليات كمومية دقيقة تحدث داخل الخلايا العصبية، تحديدًا في أنابيب مجهرية داخلها تُسمى الأنيبيبات الدقيقة (Microtubules). الأمر إذًا لا يقتصر على الكهرباء والسلوكيات العصبية، بل يصل إلى أعماق البنية المادية للواقع.
وراء هذه النظرية يقف عالمان، كلٌّ منهما قادم من ضفة مختلفة للمعرفة، لكنهما التقيا عند سؤال واحد: ما هو الوعي؟
روجر بنروز، فيزيائي رياضي بريطاني (1931– )، كرّس مسيرته لفهم البنية العميقة للكون. من خلال أعماله في النسبية العامة وميكانيكا الكم، كشف مع ستيفن هوكينغ عن طبيعة التفردات والثقوب السوداء، وهو ما أهّله للحصول على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2020. إلا أنّ اهتمامه لم يقف عند حدود السماء؛ ففي كتابه The Emperor’s New Mind (1989)، طرح رؤية جريئة مفادها أنّ العقل البشري لا يمكن اختزاله إلى مجرد عمليات حسابية، وأنّ سرّ الوعي يكمن في ظواهر أعمق تتجاوز الخوارزميات.
وعلى الضفة الأخرى، يقف ستيوارت هاميروف، طبيب التخدير الأمريكي (1947– )، الذي قضى سنواته في غرف العمليات يراقب كيف يمكن لجرعة صغيرة من المخدِّر أن تمحو الوعي بالكامل. هذا اللغز الطبي دفعه إلى البحث في البنية الداخلية للخلايا العصبية، حيث اكتشف في الأنيبيبات الدقيقة احتمال أن تكون مسرحًا لعمليات كمومية دقيقة. منذ التسعينيات، صاغ هاميروف مع بنروز نظرية Orch OR، جامعًا بين عيني الطبيب التي ترى هشاشة الوعي تحت تأثير المخدّر، وعين الفيزيائي التي تتأمل في قوانين الكون.
...
يمكنك أن تشعر براحتي يديك تتعرقان على جلد عجلة القيادة.
...
إذا كانت الأفكار تنهار من احتمالات متعددة، فالعالم المادي يفعل الشيء نفسه على مستوى أصغر بكثير—في ميكانيكا الكم، الجسيمات (مثل الإلكترون) قد تكون في أكثر من حالة في نفس الوقت — هذا يسمّى بالتراكب الكمي (superposition). لكن عندما يحدث "قياس" أو تدخل ما، تنهار هذه الحالة وتُجبر على اختيار حالة واحدة، هذا يسمى اختزالًا (collapse). هذه الظاهرة تجعلنا نتساءل عن طبيعة الواقع ذاته، إذ إن الجسيمات في هذا الوضع لا تتبع القوانين التقليدية التي نعرفها في العالم الماكروسكوبي. في العالم الكمي، الكائنات لا "تكون" إلا عندما نراقبها، مما يثير أسئلة فلسفية حول دور الوعي في تحديد الحالة التي يختارها الجسيم. "فهل يمكن أن يكون الوعي نتيجةً لانهيار كمومي ذاتي؟ هل تساهم هذه التفاعلات في تشكيل إدراكنا للعالم كما نراه؟"
تدرك يداك المقود، وتدرك أنك تُدرك. وكأنك المتحكم بالعجلة والجالس في الكرسي الخلفي في آن واحد.
شرح بنروز ملامح نظرية "أورك OR" في كتابه عقل الإمبراطور الجديد من منظور رياضي، لكنه لم يقدم آنذاك تفاصيل حول كيفية تطبيق العمليات الكمومية داخل الدماغ. أما ستيوارت هاميروف، الذي كان يعمل في أبحاث السرطان والتخدير، أسهم في النظرية من دراسته للهيكل الخلوي العصبي، وخاصة الأنابيب الدقيقة التي تلعب أدوارًا بنيوية ووظيفية متعددة داخل الخلايا العصبية، ويُعتقد — وفقًا لهامروف — أن هذه الأنيبيبات قد تحافظ على التراكب الكمومي لفترات وجيزة، رغم البيئة الحيوية الفوضوية للدماغ، وهو ما يثير جدلًا واسعًا.
سعى بنروز كذلك إلى التوفيق بين النسبية العامة (general relativity) ونظرية الكم (quantum theory) باستخدام أفكاره حول البنية الممكنة للزمكان. اقترح أن الزمكان المنحني عند مقياس بلانك ليس مستمرًا، بل منفصلًا. كما افترض أن كل تراكب كمومي منفصل له قطعة خاصة به من انحناء الزمكان، كأنه "فقاعة" في الزمكان. يرى بنروز أن الجاذبية تؤثر على هذه الفقاعات، والتي تصبح غير مستقرة عندما تتجاوز مقياس بلانك (حوالي 10⁻³⁵ متر)، وتنهار إلى إحدى الحالات المحتملة فقط. يتم تقدير العتبة التقريبية لاختزال OR عبر مبدأ اللاتحديد الخاص ببنروز:
τ ≈ ℏ / Eᴳ
- τ هو الزمن حتى حدوث OR،
- Eᴳ هو الطاقة الذاتية للجاذبية أو مقدار الفصل في الزمكان الناجم عن الكتلة المتراكبة،
- ℏ هو ثابت بلانك المختزل.
بالتالي، كلما زادت كتلة الجسم، زادت سرعة حدوث OR والعكس. ويمكن أن تنهار الأجسام المتوسطة الحجم خلال مدة زمنية تتعلق بالمعالجة العصبية في الدماغ.
...
هناك غزال واقف على الطريق.
...
تعرضت أورك OR لانتقادات شديدة من علماء الفيزياء وعلماء الأعصاب على حد سواء، واعتبرها الكثيرون نموذجًا ضعيفًا من الناحية الفيزيولوجية العصبية. كما انتُقدت النظرية لافتقارها إلى القوة التفسيرية. معظم العلماء يرون أن البيئة في الدماغ لا تسمح باستمرار الظواهر الكمومية لأنها شديدة الحرارة والفوضى ولا يوجد دليل تجريبي قاطع حتى الآن… لكن هناك دراسات تجريبية جارية، خصوصًا في مجال التخدير وتركيب الأنيبيبات الدقيقة.
...
صوت احتكاك الإطارات ضد أسفلت الشارع يُفزعه بعيدًا. لم تضغط على المكابح—في الواقع، قدمك لا تطبق أي قوة على الدواسة.
...
سواء كانت نظرية Orch OR صحيحة أم لا، فهي تفتح الباب لتساؤلات أعظم: هل نحن أكثر من مجرد تفاعلات كيميائية؟ هل يمكن أن يحمل الكون بذورًا للوعي في كل مكان — بانتظار الانهيار الصحيح؟ وإن كان وعينا متجذرًا في ميكانيكا الكم، فهل يمكن للوعي أن يوجد خارج الدماغ؟ في فوتون، أو ذرة، أو فقاعة زمكان؟ ربما لن تكون فيزياء الكم قادرة على "تفسير" الوعي… لكنها قد تعطينا لغة جديدة لنتحدث عنه، لغة يفقهها غزال الطريق السريع.
...
نحن أجساد تقودها ذواتها عبر نهر الزمن في سيارة لا نتحكم بها بالكامل، وفجأة—تظهر لحظة وعي (الغزال)، توقِفنا، تصدمنا، وتنهار بنا من ألف احتمال إلى تجربة واحدة فقط.
...
المصادر
Hameroff, S. (2021). 'Orch OR' is the most complete, and most easily falsifiable theory of consciousness.
Cognitive Neuroscience, 12(2), 74–76.
https://doi.org/10.1080/17588928.2020.1839037
Hameroff, S., & Penrose, R. (2014). Consciousness in the universe: A review of the ‘Orch OR’ theory.
Physics of Life Reviews, 11(1), 39–78.
https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1571064513001188
Wikipedia contributors. (n.d.). Orchestrated objective reduction. In Wikipedia.
https://en.wikipedia.org/wiki/Orchestrated_objective_reduction
تعليقات
إرسال تعليق